الذكاء الاصطناعي: هل بدأت الثورة الحقيقية؟

المشاغب

Administrator
محاولة محاكاة الذكاء البشري أو اتمتة بعض او كل اعمال البشر من قبل الروبوتات والمكائن والآلات والحواسيب هو شيء ليس جديد بل ان جذوره التاريخية تضرب بعمق وقد برز الى السطح خلال القرن الماضي بشكل واضح وجلي مدفوعاً بأسباب ومبررات اقتصادية مرة وعسكرية مرة أخرى واجتماعية مرة ثالثة وهكذا. نعم كانت هناك محاولات كثيرة لبناء نموذج “ذكي” من الآلات الحاسبة (التناظرية أو الرقمية) وكلها وصلت الى مراحل معينة وتوقفت لأسباب كثيرة منها نقص التمويل المالي أو صعوبة الأهداف في وقتها مقارنة مع الإمكانيات الحاسوبية المتوفرة حينها أو عدم نضوج فكرة الذكاء عند الكثيرين ممن عملوا في هذا المجال. وحتى وقت قريب كان الكثير من الناس يعتبرون ان الذكاء الاصطناعي لا يعدو كونه خيال علمي او حلم بعيد المنال ولكن التطورات المتسارعة الحديثة جعلت كل مطلع على سير مجريات الاحداث يعرف أنه لم يعد مجرد خيال علمي وإنما حقيقة واقعة تنتظر أن تنطلق وتجتاح كل المجالات بقوة.




حتى وقت قريب:

كانت المحاولات خجولة لتطوير نماذج تعلم الي وتعلم عميق وذكاء اصطناعي بشكل عام واصطدمت دوماً بمشاكل تقنية وبشرية تتعلق بألية النشر والتوظيف في العالم الحقيقي لهذه النماذج ولكن الشركات الكبرى لم تتوقف يوماً عن السباق من أجل الريادة في هذا المجال وقد تحقق لها ما أرادت. مدفوعة من الخوف من التخلف في هذا السباق، صرفت (وما تزال) الشركات الكبرى والحكومات حول العالم مئات المليارات من الدولارات على مجالات الذكاء الاصطناعي بشكل دعم للبحث العلمي والصناعة والأفكار والتطوير في هذا المجال بشكل اعتقد الكثير من المتابعين انه مبالغ به ومفرط بل واعتبره آخرون هدراً للثروة البشرية في مقابل وجود مشاكل حقيقي أخرى يمكن حلها والتخلص منها بمبالغ أقل بكثير مما صرف ويصرف في هذا المضمار.

كورونا سرعت وعطلت الكثير!

ان انتشار فيروس كورونا (COVID-19) اواخر عام 2019 واستمراره لعامين على الأقل يحصد أرواح ملايين البشر حول العالم ويعرقل العمل والدراسة والحياة بشكل طبيعي أخر الكثير من المنجزات العلمية والتقنية التي كان من المقرر إطلاقها عام 2020 (كونه عام مميز رقمياً وكانت الكثير من الشركات تنوي استغلاله لإطلاق الكثير من المنتجات والخدمات) ولكن الركود الاقتصادي العالمي الذي صاحب انتشار الجائحة سبب تأخر الكثير من هذه المشاريع. في نفس الوقت فأن كورونا حققت ما عجزت عنه عشرات السنين من التحضير والتهيئة للتحول الرقمي ونقل الكثير من النشاطات البشرية من الواقع الى البيئة الافتراضية والالكترونية (تعليم الكتروني، تسوّق و تسويق الكتروني، عمل عن بعد، اجتماعات افتراضية عن بعد، إدارة الأعمال والمستشفيات والكثير من مفاصل الحياة عن بعد) حتى قيل تندراً ان من حقق التحول الرقمي في الكثير من الدول ليس الخطط المحكمة والصرفيات الكثيرة وانما الاضطرار الى ذلك بسبب كورونا.




عودة بعد الركود (او هكذا اعتقد الجميع!):

الأزمة العالمية ابان ايام كورونا شجعت الكثير من الشركات الكبرى على توظيف أعداد كبيرة من الموظفين للعمل عن بعد (من المنزل) أو بدوام جزئي وتسريع خطط الاتمتة والتحول الرقمي وهو ما اعطى دفعة قوية لمشاريع الذكاء الاصطناعي المتباطئة أو المتلكئة قبلها وعملت تلك الآلاف المؤلفة من الموظفين الجدد مع زملائهم القدامى لعامين متواصلين على تطوير كل قطاعات الأعمال في تلك الشركات و زبائنها وعملائها حول العالم حتى إذا انجلت الغمة وبدأت كورونا بالانحسار وبدأت توقعات النهضة الاقتصادية والعودة من كبوة كورونا تصبح أكثر وأكثر اشراقاً وتفاؤلاً اصطدم العالم بأن أي من هذا لم يحدث! وان المشاكل الاقتصادية ما زالت تتعاظم وتكبر خصوصاً مع الحرب الروسية الاوكرانية واستمرار تضرر وتقطع سلاسل التوريد العالمية (supply chain) و مشاكل تتعلق بالعملات الرقمية وعدم مركزيتها وعدم تنظيمها ومشاكل تتعلق بتزايد الهجمات السيبرانية العالمية بشكل مخيف أثناء وبعد فترة كورونا مما كلف الكثير من الدول والشركات مليارات الدولارات خسائر مباشرة او غير مباشرة (تعويضات وفدية وخسارة عملاء و و) وهنا وجدت هذه الشركات نفسها أمام خيارين: أما استمرار الصرف على هذه الأعداد الهائلة من الموظفين واستمرار الخسائر في ظل الظروف المذكورة أعلاه أو استثمار ما تم تطويره حديثاً (الأتمتة والذكاء الاصطناعي) بتسريح أعداد هائلة من الموظفين وكان الخيار الواضح للشركات الربحية هو الخيار الثاني فرأينا تسريع عشرات الآلاف من موظفي كبار الشركات حول العالم وكما في الصورة ادناه (كمثال وليس للحصر):




65Ys4kbwZl5zu1xKcdSxuzhHnV5eKFWyZgsFCfvs21jb8BYdrxQq5IcCbJj50GNxGOSdJ6u-gNhh2EIL45d09tnZZVsrH6NeOySSGFMWJURwBvwA5IZP9iI604FB0td46pzj1VDZJmaIuohsOzXj4cg

واقع عالمي جديد وإجراءات تتخذ استجابة له:

لسنا بصدد تبرير ما يجري عالمياً وانما فقط نحاول وصف الواقع كما يراه صانعي القرار وهذا هو الواقع العالمي الذي نعيشه اليوم حيث يمكن تلخيصه بالنقاط التالية:

1- أكثر من 8 مليار انسان موزعين على اليابسة على الأرض بشكل غير منطقي ولا متساوي لا من ناحية الموارد الطبيعية المتوفرة ولا من ناحية استثمارها بالشكل الأمثل.

2- احتباس حراري و تغير مناخي بدأنا نشهد اثاره وتداعياته اليوم وفي حياتنا وليس بعد 50 او 100 عام كما كانوا يقولون!

3- مشكلة الكهولة في بعض الدول (أعداد كبار السن كبيرة وانخفاض ملحوظ في أعداد الولادات الجديدة بل وتناقص في أعداد سكان بعض الدول) مما يعني يد عاملة بشرية أقل في هذه الدول.

4- تضخم سكاني كبير في بعض الدول الاسيوية والافريقية يرافقه أمية قراءة وكتابة وامية حاسوبية لدى غالبية هؤلاء في تلك الدول مما يعني صعوبة الاستفادة منهم كعمالة ماهرة لسد النقص في الكوادر البشرية في الدول أعلاه.




5- انعدام العدالة في التوزيع للثروة وتضخم الموارد المادية والمعنوية لدى نسبة لا تزيد عن 1% من سكان العالم (يملكون 99% من الثروة) في مقابل البقية (99% من السكان في العالم لا تزيد ثروتهم عن 1% من الثروة العالمية).

6- تزايد كلفة توظيف العمالة البشرية بسبب التضخم المستمر في قبالة انخفاض أسعار الروبوتات والأنظمة الذكية وكلفة الطاقة والخزن والصيانة والدوائر الالكترونية المكونة لها.

7- استثمار العديد من الدول و المؤسسات ميزانيات هائلة وضخمة في البنية التحتية لتقنيات المعلومات والاتصالات والأنظمة المؤتمتة والذكية والحاجة الى استرجاع الاستثمار بأسرع وقت ممكن في ظل المشاكل الاقتصادية والسياسية العالمية.

كل هذه الحقائق وغيرها جعلت ولادة الذكاء الاصطناعي الموسع (كما نراه اليوم في تطبيقات مثل chatGPT و MidJourney وأمثالها من عشرات المواقع والخدمات والتطبيقات) امراً ضرورياً وواقعاً سنضطر للتعايش معه من الآن فصاعداً.

تفاؤل ومخاوف

بالنسبة للتطبيقات المذكورة أعلاه والتي وصلت اليوم إلى النسخ الرابعة والخامسة والمزيد قادم بأسرع مما نتصور، فأن البشر انقسموا حولها إلى عدة أصناف:

  • الصنف الأول منبهر بها ومعجب بأدائها وما زال يعيش مرحلة الغزل بإمكانياتها وكيفية الاستفادة منها.
  • الصنف الثاني خائف متوجس منها ومما يمكن أن تفعله وتسببه من الاستغناء عن أعداد كبيرة من الموظفين والعاملين في شتى المجالات بل إنهم يصرحون في مواقعهم وصفحاتهم وقنواتهم عن خوفهم هذا بل والتحذير منها وربما حتى التظاهر ضدها أو رفع الدعاوى القانونية ضدها (كما حصل حين رفعت نقابة المحامين دعوى قضائية ضد روبوت محامي بحجة أنه ترافع عن المتهم دون أن يحصل على اجازة ممارسة المهنة!).
  • الصنف الثالث وهم الاغلبية لا يعرفون شيئاً عن الموضوع حتى الآن وحتى وان سمعوا به فهم لن يعيروه أي اهتمام لأنه لا يمس حياتهم بشكل مباشر بشيء (حسب ما يعتقدون) وحين يتم استخدامه بشكل واسع فسيكونون حالهم حال غيرهم متبعين المثل القائل (حشر مع الناس عيد).



بين كل هذه الاصناف من البشر لا يمكن ان ننكر ان هذه التطبيقات ثورية ورائدة في مستوى الخدمات والتسهيلات التي تقدمها للبشر وبنفس الوقت لا يمكن أن نتغاضى عن المخاوف المنطقية والحقيقية لدى الكثيرين حول مستقبل هذه التطبيقات والخدمات وما يمكن أن تسببه من استبدال العامل البشري في الكثير من الوظائف الروتينية والتقليدية (بل وحتى الخلاقة والابتكارية منها الى حد ما) مما سيجبر أعداد كبيرة من البشر على البحث عن مسارات وظيفية اخرى لا تمسها الروبوتات والانظمة الذكية بسوء!

وبين كل هذا وذاك يجب أن لا ننسى أن نبدأ التفكير جدياً في تغيير مناهج ومنهجية التدريس والتدريب للأجيال الجديدة من البشر لأنه حتماً سيكبرون ليعيشوا في واقع مختلف تماماً عن واقعنا اليوم وكما ذكرت الكثير من الاحصائيات انه خلال 10 سنين ستكون أكثر من 50% من الوظائف المتوفرة بمسميات ومحتوى لا نعرف عنه شيء اليوم فلنتهيأ ونهيئ أجيالنا القادمة لواقع غريب كهذا وإلا بقينا في صفحات التاريخ بينما يتقدم العالم بخطى ثابتة نحو واقع جديد.

المصدر
 
عودة
أعلى